إنَّ ناطحات السحاب قصَّةُ هيام ودراما، هي الشغفُ والجمال، إنَّها رمزُ مدينةٍ أو مجتمعٍ أو بلدٍ برُمَّته في بعضِ الأحيان. وعندما راحت المدنُ تكتظُّ وتكتظ، دعت الحاجةُ إلى زيادةِ المساحات، وهكذا أضحت ناطحات السحاب مركزًا مُهمًّا للنشاطاتِ البشرية. ما من بناءٍ على مدى التاريخ
كان لهُ هذا الأثرُ الكبير الذي تتَّسمُ بهِ ناطحات السحاب على حياتنا وعملنا اليوم. من أينَ ابتكرنا أعجوبةَ التكنولوجيا هذه؟ التي تشمخُ بعلو ربع ميلٍ، وتتميَّزُ بشكلها الفريد؟
كان لهُ هذا الأثرُ الكبير الذي تتَّسمُ بهِ ناطحات السحاب على حياتنا وعملنا اليوم. من أينَ ابتكرنا أعجوبةَ التكنولوجيا هذه؟ التي تشمخُ بعلو ربع ميلٍ، وتتميَّزُ بشكلها الفريد؟
ايطاليا…
مدينة ايطاليا القديمة (سان دجيمينيانو)، تعود أبراجها إلى القرون الوسطى، كان عددها يتجاوز 70 ناطحة سحاب منذ 800عام. سبب بناء ناطحات السحاب في ذلكَ الوقت هو الحروب المستمرة التي كانت تتعرَّض لها المدينة بسبب ازدهار التجارة بها، وبسبب غناها تعرَّضت لغزواتٍ عديدة، مما اضطر سكانها لبناء الأبراج العالية. إضافةً إلى الحروب الأهلية بين العوائل، فعندما تُحقِّق إحدى العائلات النصر، كانت تبني برجًا أعلى رمزًا لجبروتها وسؤددها.
اعتمد السكان لبناء هذه الأبراج على طريقة سهلة تقضي برصف الأحجار ووضع مادة الملاط فيما بينها، وجدرانها تحمل الأوزان الثقيلة فبالإضافة إلى وزنها تحمل وزن الطبقات وكل ما تعجُّ به من السكان إلى الأثاث والبراميل، وبعبارة أخرى، كل ما تحويه هذه الأبنية من طبقتها السفلى إلى سطحها. لقد شُيِّدت هذه الجدران سميكةً في الأسفل كي لا تتمايل في أثناء بنائها، فكلَّما كان البرجُ أعلى كان الجدار أقوى. في هذه المدينة تمَّ بناء الأبراج على قاعدةٍ حجريةٍ قوية، ولو لم يكن أساسها قوية لانهارت أو تهدَّمت.
تمتاز الأبراج بقوتها، ولكن سماكة الجدران تُسبب مشاكل. فسماكة الجدران في هذه الأبراج تبلغُ ستة أقدام ممَّا يُقلِّلُ من مساحةِ الأبراج الداخلية، وقلَّما تجدُ نوافذَ في هذهِ الأبراج، لأنَّ النوافذ هي ثقوبٌ في الجدار، من شأنها أن تُضعفَ قوَّة أساسِ البناء، فكان أن باتت هذه الأبراج مظلمة.
أصبحت الغرف في الأبراج غارقةً في ظلامٍ دامس ورطوبةً قويَّة. ولكن هذا لم يُزعج ساكنيها، لأنَّ الجدران السميكة الخالية من النوافذ كانت تُشكِّل حصنًا منيعًا. ومادم الطعام والمياه متوفرين كان السكان يصمدون أمام محاصريهم حتَّى ولو دام الحصار أشهرًا. وكان لارتفاع الأبراج ميزة أخرى، فعلوها يُتيح للمرء من على السطح أن يرى أعداءهُ يقتربون منهُ، فيعدُّ الطريقة الفضلى في استقبال أعدائهِ، فإمَّا يسكبُ المياه الساخنة أو القمامة على رؤوسهم، أو يرميهم بالأسهم.
صور عامة للمدينة..
فرنسا… الكاتدرائيات/ كاتدرائية مدينة رايمز
بخلاف أبراج إيطاليا القديمة، صُمِّمت الكاتدرائيات القوطية لتحوي ألآف السكَّان، إنَّ تلكَ الأبراج التي كانت رمزًا لنفوذ الكنيسة آنذاك، كانت بمثابةِ ناطحاتِ سحاب فرنسا في القرون الوسطى. وكان بناء كلّ كاتدرائية جديدة بمثابة محاولة ضارية للتفوق على الكاتدرائيات الأخرى شموخًا وهيبة.
في القرون الوسطى كان النَّاس يتعطَّشون إلى النور، فالنور هو الله، ولمَّا أراد النَّاس أن يعكسوا صورة الله في البناء، بنوا نوافذ ضخمة لتعكس النور الإلهي في داخل الكاتدرائيات بحسب اعتقادهم.
كانوا يرفعون الأحجار وغيرها من الأدواتِ إلى ارتفاعاتٍ عاليةٍ، فقد كان ارتفاع القببَ في السقفِ يبلغُ 150 قدمًا. كما قد استحدثت آلة الرافعة، فبات ممكنًا رفع الأدوات الثقيلةِ يدويًّا، إضافةً إلى ذلكَ، كانوا يستخدمون آلةً أخرى عُرفت باسم (جاب) وهي عبارة عن عجلةٍ كبيرةٍ يدوسها العامل بقدميهِ مُحدثًا قوَّةً رافعةً هائلة. فضلًا على أنَّ البنَّائين استخدموا للمرَّةِ الأولى عربةَ اليد ذات العجلة الواحدة.
السؤال الذي يطرحُ نفسهُ، أنَّهُ حتَّى وإن استخدموا الآلات المتطورة في العصورِ الوسطى كيف استطاعوا أن يبنوا هذهِ النوافذ الشاهقة من دونِ أن تضعفَ جدران الكاتدرائية الحجريةِ والثقيلة؟ يُعزى هذا إلى الأعمدة الحجرية السميكة في القاعة الواسعة المعروفة (بالصحن) حيثُ يجتمع المؤمنون. هذهِ الأعمدة كانت تحملُ معظم وزن البناءِ والسقف، فقد باتَ ممكنًا أن يتخلَّل الزجاج الجدران الخارجية.
واجه معلموا البناء مشكلة عندما استعاضوا عن الخشبِ بالحجرِ لبناء السقف بُغيةَ تجنُّبِ الحرائق. إنَّ السقف الحجري ثقيلٌ جدًا، وبما أنَّهُ مقوَّس فإنَّهُ يدفع بالجدران والأعمدة نحو الخارج. ولو لم يكن البناء مُدعمًّا لانهارت الجدران ذات النوافذ الواسعة ولتحطَّم السقف.
فما كان من البنَّائين القوطيين إلاَّ أن يدفعوا إلى الخارج مستخدمين ألواحًا حجرية تُعرفُ بالركائزِ الطائرة. كان سرُّ معلمي البناء في تشييدِ كاتدرائياتٍ يتخلَّلُ الزجاجُ جدرانها يكمنُ في هذهِ الركائزِ الخارجية المدعومةِ بأعمدةٍ ثقيلةٍ خارجية. إنَّما كلَّفت هذه الهندسة أموالًا طائلة. إضافةً إلى أنَّ بناء الكاتدرائية استغرق 50 سنةً.! إنَّ الكاتدرائيات القوطية الشبيهة بكاتدرائيةِ مدينة رايمز بالغت في استخدام الحجر فحمَّلتهُ أكثر من طاقتهِ على الحمل. تمرُّ قرونٌ وقرونٌ قبل أن يُعاود العالم التفكير في بناءِ أبنيةٍ شاهقةٍ من جديد، وستكون فرنسا مرَّةً أخرى المسرحَ لعودتها.
فرنسا .. برج إيفل
في عام 1880م، في معرضِ باريس العالمي، قدَّم مهندس يُدعى (جوستاف إيفل) -اشتهر آنذاك بالجسور الحجرية التي كان يبنيها- اقتراحًا يشبهُ جسرًا حديديًا مقلوبًا راسًا على عقب. تمَّ قبول الاقتراح المقدم، إنَّما بعد عرضهِ على الشعب تعرَّض لانتقاداتٍ لاذعة، إذ عدَّهُ النقاد بناءً شنيعًا وباهظًا. إنَّما إيفل كان واثقًا بمشروعهِ. للحديد قوَّة الحجر إنَّما وزنه أخف، ويمكن التحكمُ بشكلهِ وحجمهِ وكميته. في غضونِ واحد وعشرين شهرًا استطاع إيفل أن يجمع القطع الضرورية لبرجهِ، وعددها اثنتا عشر قطعة، فكان البرجُ جاهزًا ليوم افتتاح المعرض. وقد سرق الأنظار حينها.
أظهر برجُ إيفل –أطولُ برجٍ بناهُ الإنسان على الإطلاق- قوة الحديد في بناءِ مباني شاهقة، يكفي أن نتخيل هذا الهيكل المعدني الشاهق مُحاطًا بجدران، فنرى أمامنا ناطحةَ سحابٍ ترتفعُ ألف قدم.
تتميَّزُ الأبنيةُ الشاهقةُ بسلالمها اللامتناهية، فثمَّة ألفٌ وسبعمائة سلمٍ في برج إيفل، ومن دون المصاعد ليست الأبنية الشاهقةُ سوى مشروعٍ عسير. لقد استحدثت المصاعد قبل فترة طويلة من بناءِ برجِ إيفل تحديدًا في عام 1854م، إنَّما ما كان أحدٌ قد حاول بعد أن يستخدم مصعدًا في بناءٍ بهذا العلو. ركَّب جوستاف إيفل مصعدين في برجهِ، ولمَّا كان متعهدًّا فطنًا، عرف أنَّ الناسَ لا يترددون في دفعِ المال للوقوفِ على سطحِ برجٍ يبلغُ ارتفاعهُ ألف قدم، والتمتع بالمنظر الذي يمتد على مدى نظرهم. غطَّت تذاكر برجُ إيفل تكاليف البناءِ كافةً في سنةٍ واحدةٍ فقط، وباتَ إيفل أحد أثرى الرجال في فرنسا.
شيكاغو
مع أنَّ برج إيفل كان إنجازًا رائعًا في عالمِ الهندسة، إلَّا أنَّ المدن الأمريكية مثل شيكاغو هي التي استثمرت قوة المدن استثمارًا كاملًا. ففي شيكاغو ناطحاتِ سحابٍ خلَّابة، أوجدت أنماطَ عملٍ وحياةٍ جديدة. شيكاغو ليست المدينة الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية، وليست مركز اقتصادها، ولا تمثِّلُ حضارة هذه البلاد، إنَّما هي مدينة رائعة وقوية فيها أجمل هندسة في الولايات المتحدة وتربطها علاقةٌ وثيقةٌ بناطحاتِ السحاب.
إنَّ عدد الأبنيةِ الشاهقةِ والرائعة التي بنيت في شيكاغو في نهاية القرن التاسع عشر لمدهش.
بدأت قصة الحبِّ بين شيكاغو وناطحاتِ السحاب بكارثةٍ مُفجعة، ففي عام 1817م، شبَّ حريقٌ وامتد في أرجاءِ شيكاغو كافةً فأحرق المدينة المزدهرة كليًّا. أزهقت أنذاكَ أرواحُ مئات الأشخاص، ودمِّر سبعة عشرة ألف مبنى. إنَّما بدل أن يدمِّرَ الحريق المدينةَ إلى الأبد حفَّز على قيامِ مدينةٍ جديدة من كومة الدمار والرماد.
كانت شيكاغو تعجُّ بالطاقة والحيوية، في خضم التطور والازدهار والتجديد والتغيير، وتغصُّ بالضوضاء والدخان والسيارات، وكأنَّها خليةُ نحلٍ تعجُّ بالحركةِ التجارية. سرعان ما أضحت شيكاغو مليئةً بالأنشطة البشرية كافةً، من تخزين اللحوم وتعليبها وطلب البضائع وإرسالها بواسطة البريد، وإلى بيعِ البضائع بالتجزئة. وفيما كانت الأعمال تتطور بسرعةٍ فائقة في شيكاغو، راحَ مئات الآف الأشخاص يتقاطرون إلى هذه المدينة بحثًا عن عملٍ في مكاتبها المتمركزة في أبنيةٍ مؤلفة من خمسِ إلى ستِّ طبقات. راح شارع شيكاغو الصغير للأعمال المعروف باسم (لوب) والذي تُحيط به الأنهار والسكك الحديدية وبحيرة ميتشجن، يغصُّ ويغصُّ بالسكان. راح الناس يتوافدون إلى شيكاغو، فما عادت المساحةُ كافيةً في وسطِ المدينة لبناء مساكنَ أو مكاتبَ لهم، وكان الحلُّ الوحيد الصعودَ عاليًا.
تروي الأسطورة أن ناطحات السحاب المعاصرة قد أبصرت النور عندما كان المهندس (وليم لوبارون جيني) يصمِّمُ مبنىً لشركةِ الضمان القومي، في يومٍ من الأيام شعرَ هذا المهندس بتوعكٍ صحي فتركَ العمل باكرًا. حين أراد الجلوس على كرسيهِ المفضل وجد على مكتبه ألبوم صور، وكانت ألبومات الصور في تلكَ الحقبة، شبيهةً بالكتبِ القديمة الضخمة، فأخذ الألبوم ووضعهُ فوقَ قفصٍ للعصافير، وحين كان جالسًا على كرسيه، وقعَ نظرهُ على الكتاب الضخم الثقيل وتحتهُ القفص الصغير. فراحَ يتساءَل، إذا استطاع هذا القفصُ أن يحملَ الكتاب الثقيل فماذا لو؟ وإذ ذاك، رأت فكرة البناء الهيكلي النور. رأى جيني أنَّ قفصًا معدنيًا يستطيعُ أن يكونَ بديلاً عن الجدرانِ الثقيلة في حملِ مبنىً عالٍ.
إن دخلتَ أيَّ مبنىً عالٍ اليوم، رأيت أعمدةً عمودية، وألواحًا خشبيةً أفقية. عوض الجدران السميكة، باتَ هذا الهيكل هو من يحمل المبنى. يُنقلُ وزن المبنى وكل ما يحويه من الألواح الخشبية إلى الأعمدة وثمَّ نزولًا إلى قاعدةِ البناء. وإن نظرنا من الأعلى رأينا أنَّ عددًا من الأعمدة الداخلية الثقيلة تُعطي المبنى دعمًا وقوَّة إضافيين. وسط هذه الأعمدة توجد مساحةٌ تسمَّى قلب المبنى.تركَّبُ فيها عادةً المصاعد وتبنى السلالم والمراحيض.
إنَّ المساحة التي تحيطُ بقلبِ المبنى واسعة، وتستطيعُ أن تحوي المكاتبَ والكراسيَ والموظفين، وبما أنَّ الهيكل الفولاذي يحملُ وزن المبنى، فإنَّ الجدران الخارجية لا تحملُ شيئًا. فكلُّ ما تحويهِ هذه المساحة هو مجرَّدُ غطاءٍ للحمايةِ من الأحوالِ الجوية. وهكذا بات في مقدورنا أن نبني نوافذَ بقدرِ ما يحلو لنا. بفضلِ الهيكلِ الفولاذي ازدادت مساحةُ البناء الداخلية وصار النور ينسابُ إلى هذهِ الأبنية. اعتمدَ جيني على هذهِ الطريقة في تشييد المباني التي كان يصممها، وهي عبارةٌ عن بناءِ هيكلٍ معدني يحملُ جدرانًا عاليًا. إنَّما سُرعانَ ما تحوَّل نجاحُ ناطحاتِ السحاب المبكِّر، إلى نهايةٍ أليمة لهذه الأبنية.
راحت شوارعُ شيكاغو تعجُّ بهذه الأبنيةِ العالية، فأبدى النَّاس خوفهم من أن تتحولَ شوارعهم التي كانت تغمرها أشعة الشمس إلى ممرَّاتٍ غارقةٍ في ظلامٍ دامس.
في عامِ 1893م، حدَّدت شيكاغو طول الأبنية إلى عشرةِ طبقات، مع أنَّ الهيكل المعدني كان يستطيع أن يعلو أكثر وأكثر.
نيويورك.. مبنى امباير ستيت
أمَّا في نيويورك فما كان من حدودٍ لناطحاتِ السحاب، على غرارِ شيكاغو كانت تعاني نيويورك مشكلة، ففي جزيرةِ مانهاتن أعدادٌ كبيرةٌ من السكَّان، إنَّما المساحةُ غيرُ كافية لهم، فاستحالت الحاجة إلى المساحة العمودية إلى طلبٍ لبناءٍ أبنيةٍ عالية.
فضلًا عن منافعِ الأبنيةِ الشاهقة، فإنَّ من يبني أعلى مبنى في العالم يظفرُ بشهرةٍ عالمية، إنَّ كلَّ صحيفةٍ في العالم أجيدةً كانت أم سيئة، تروي قصصًا عن هذهِ الأبنية، فكان أن أصبحت ناطحات السحاب في مطلع القرن العشرين، معروفةً باسم الشركات المتعهدة.
منذ ذلكَ الحين بدأ السباق على لقبِ أعلى ناطحةِ سحابٍ في العالم. على سبيل المثال تعلو شركة سنجر لآلات الخياطة 47 طبقة، وشركةُ متربوليتان للتأمين على الحياة 50 طبقة، وشركةُ وول وورث 55 طبقة، وكرايسلر 77 طبقة.
في خضَّمِ هذه الموجة العارمة من الحركة والنشاط، تمَّ تشييدُ امباير استيت، وهي مبنى مساحة الإيجارُ فيه ضعفا مساحة مبنى كرايسلر، وكان المهندسون على يقينٍ بأنَّ هذا المبنى سيدرُّ عليهم ثروة طائلة.
إنَّما ما كاد تشييدُ ناطحات السحاب هذه يبدأ حتَّى دخلت السوق في حلقةٍ مفرغة من المشاكل، أوقفت تقريبًا معظمُ عمليات التشييد في نيويورك، إلاَّ أنَّ مهندسي مبنى امباير ستيت أكملوا عملهم، كانوا يأملون أن يعودَ الاقتصاد ويزدهر، فراحوا يُكملون عملهم بسرعةٍ فائقة، إنَّ هذا المبنى الذي كان يعدُّ من أكبرِ مشاريعِ البناء، احتاج إلى أربعةِ ألاف عامل، وخمسةِ ألافِ قطعةِ فولاذ، فضلًا عن أنَّهُ أعلى وأوسعُ مبنىً في العالم، فهو متمركزُ في إحدى المدنِ الأكثر اكتظاظًا.
المشكلةُ الكبرى في تشييدِ مبنىً مثل امباير ستيت، هي المساحة، والمدن المتطورة هي الأماكن المفضلة لبناء ناطحاتِ السحاب، إنَّما أينَ يُمكنُ وضع مواد البناء؟ كان يتم وضع المواد الجاهزة لتشييد مبنى امباير ستيت بعيدًا عن موقع البناء، فكانت المواد تُعدُّ عند الحاجة، وبات هذا المبنى الضخم الذي يتألف من ألواحٍ معدنية بنيوية وأخرى تزينية، شبيهةٍ بعلبةٍ معدَّاتٍ ضخمة تُجمعُ أجزاؤها بسرعةٍ هائلة. إنَّ العملَ في مبنى امباير ستيت شبيهٌ بأسلوبِ عملٍ يُعرفُ بخط التجميع، وهو سيرٌ أفقي تُجمع فيه أجزاءُ آلةٍ ما تدريجيًا، إنَّما خلافًا لهذه الطريقة، كان بنَّاؤا ناطحات السحاب، يتنقَّلون من مكانٍ إلى مكانٍ آخر، فيما يبقى خطُّ التجميعِ ثابتًا. تهدفُ هذه الطريقة إلى تعزيزِ سرعة العمل وفعاليته. تمَّ تركيب سككاً حديدية في كلِّ طبقة، لنقل المواد بسرعةٍ في عرباتٍ صغيرة. وقد تمَّ بناء مقاهي صغيرة في كلِّ خمسِ طبقات، كي لا يُبددوا الوقت صعودًا أو نزولاً عند استراحة الغداء. فقد أرادَ أصحاب المبنى، أنْ يُنجز المبنى بسرعةٍ جنونية، إذ كان يعلو بمقدار طبقة واحدة كل يوم! ويُحكى أنَّ ألواح الفولاذ كانت تركَّبُ وهي ما تزال حامية.
في أيَّار/ مايو عام 1931م، تمَّ افتتاح أعلى مبنى في العالم، بارتفاع 200قدم. وفي يوم سبت تموز عام 1945م، اصطدمت طائرة يبلغ وزنها عشرة أطنان بالطبقتين التاسعة والسبعين والثمانين من الجدارِ الشمالي من المبنى.
شبَّت النيرانُ في المبنى، فاحترق موظَّفوا المكاتب والمكاتب على السواء، الأشخاص الثلاثة الذين كانوا على متنِ الطائرة، إضافةً إلى أحدَ عشر شخصًا آخرين، لاقوا حتفهم في ذلك اليوم.
ناطحات سحاب من زجاج..
مع حلول الخمسينيات، أصبحت ناطحات السحاب ذات الجدران الحجرية الثقيلة على غرارِ مبنى امباير ستيت مكلفة جدًا، فاستعاض المهندسون عن الحجر بصفائحَ زجاجية ومعدنية خفيفة، فكان أن صار بناءُ ناطحاتِ السحاب أسرعُ وأقلُّ تكلفة. وأضحت العلبُ الزجاجية هذه رائجة، لأنَّها لم تكن مُكلفة، فكان بناءُ ناطحات السحاب هذه المتشابهة سهلًا ورخيصًا، وبات هذا الشكل الأملس يُعرفُ بالطراز العالمي، أسيئةً كانت نتائجُ هذا البناء أم حسنة، فقد انتشرت العلبُ الزجاجية المعاصرة في العالمِ كله.
آراءٌ مُتضاربة كانت تجول في بالِ سكَّان المدن الكبرى بشأنِ العلب الزجاجية هذه، فقد أزعجهم انتشارها في كلِّ مكانٍ من مدنهم. إن سرَّ الهندسة في المدن، هو تفاعل الأبنية فيما بينها، إلاَّ أنَّ الأبنية الحديثة أخفقت في ذلك، فحتَّى ناطحات السحاب الفُضلى، تُشكلُّ بناءً مستقلًا عن الأبنيةِ الأخرى.
الهواء!
لم يكن شكلُ هذه الأبنية هو المشكلة الوحيدة، فبعد أن خلت العلب الزجاجية من المواد الثقيلة، مثل الجدران الحجرية، بات وزنها أخف. وكلَّما كان المبنى أعلى وأخف، صار عرضةً للتمايل مع الهواء، وإذا تمايل المبنى كثيرًا شعر النَّاس بهِ بالدوار.
احتاج المهندسون لطريقةٍ جديدة لبناء ناطحات سحابٍ زجاجيةٍ عالية، ففكروا أن يبنوا هياكلَ أكثرَ صلابة، من دون أن يضيفوا مادة الفولاذ المكلفة عليها. مفادُ أحد الحلول أن تُنقلَ بنية الألواح والأعمدة، من داخلِ المبنى إلى نطاقه الخارجي. تكون ناطحات السحاب بهذه الطريقة بمثابة انبوبٍ صلبٍ أجوف، لهُ قوَّة الهيكل التقليدي، إنَّما لا يحتوي على كميةٍ أقل من الفولاذ.
لقد تمَّ تشييد برجي والد تريد سنتر بهذه الطريقة، فاستطاعَ هذان البرجان أن ينتزعا من مبنى امباير ستيت لقب البناء الأطول. إنَّما بعد سنةٍ واحدة، انقلبت المقاييس، إذا أنَّ شيكاغو انتزعت اللقب من نيويورك بعد تشييد برج سيرز فيها، وهو برجٌ مؤلفٌ من مائةٍ وعشرِ طبقات.
بفضلِ الهيكل الجديد الذي اتخذ شكل الأنبوب، صار المهندسون يستطيعون تشييد أبنيةٍ أعلى، إنَّما أرادوا أن تكون ناطحات السحابِ أقلَّ وزنًا، وأن تحتوي على كميةٍ أقل من الفولاذ، إلاَّ أنَّهم بعد أن شيدوا مركز سيتي كورب في نيويورك بهذه الطريقة، واجهوا ورطةً ما بعدها ورطة.!
نيويورك… مبنى سيتي كورب
كان مركز سيتي كورب سابعَ أعلى ناطحةِ سحابٍ في العالم، وبفضلِ صفائحِ الزجاج والألومينيوم فيه، كان أحد الأبنيةِ الأقل وزنًا. يحبُّ البنَّاؤون هذه الأبنية الخفيفة لأنَّها تحتاج إلى كميةٍ أقل من المواد، وهي بالتالي أقلُّ تكلفة. وتعيَّن على المهندس بيل ميجير أن يجدَ حلًا لمركز سيتي كورب الذي يعلو ستين طبقة كي لا يشعرَ النَّاسُ فيه بالدوار، كان حلَّهُ يقضي بتركيب جهازٍ يُسمَّى ضابط الذبذبات في أعلى المبنى. إنَّ ضابط الذبذبات عبارةٌ عن مربعٍ كبير من الأسمنت، تمَّ تركيبهُ في الطبقةِ الثالثةِ والستين من مبنى سيتي كورب، فوق المكاتب كافةً، وكان ضابط الذبذبات هذا كبيرًا جدًا، فاضطُّر البناؤون إلى تركيبهِ قبل أن يتمَّ إنجاز البناء كله. يضبط هذا الجهازُ أيَّ تمايلٍ في المبنى ناتجٍ عن حركةِ الهواء، وهو تمايلٌ لا يستطيع الإنسان العادي أن يحسَّ به، فتروحُ المضخَّاتُ تعمل وترفعُ ضابط الذبذبات. إنَّ ضابط الذبذبات مثبتٌ في بواسطةِ نوابضَ ضخمة وأجهزةٍ تمتصُّ الصدمات، بيحث ينزلق من ناحيةٍ إلى أخرى، على صفيحةٍ من الزيت. وحين يتمايلُ المبنى، يتمايلُ ضابط الذبذبات بدورهِ في الاتجاهِ نفسه، ولمَّا يلوح المبنى في الاتجاه الآخر، يخفِّفُ هذا الجهاز من حركته. وفي غضونِ دقيقة تخفُّ حركة المبنى إلى مستوى مقبول.
من ميزاتِ سيتي كورب الغريبة، أنَّهُ تمَّ بناءهُ على أربعةِ أعمدة ليست مبنية في الزوايا التي عادةً تُبنى فيها! ، كان على المهندس ويليام لوميجر أن يبني الأعمدة الثقيلة في وسط جوانب المبنى كي تبقى مساحةٌ كافية لتشييد كنيسة القديس بطرس في إحدى الزوايا. وهذه الطريقة في البناء كانت ممكنة بفضل هيكل المبنى الرائع فهو يتألف من مجموعةٍ ألواحٍ فولاذية هائلة نظِّمت على شكلِ أرقام سبعة ضخمة، تنقل الجاذبية ووزن المبنى من الزوايا إلى الأعمدةِ الأربعة.
ماليزيا.. برجي بتروناس
في عامِ 96م، انتزعت ماليزيا من شيكاغو، لقب أعلى مبنى في العالم، بعد أن شيَّدت برجي بيتروناس الذين تجاوزا مبنى سيرز بثلاثٍ وثلاثين قدمًا. وللمرة الأولى في تاريخ ناطحات السحاب لم يكن المبنى الأعلى في نيويورك. لقد تمَّ تشييدهما في العاصمة الماليزية كوالالمبور.
أُختير للبناء نماذج اسلامية، بما أنَّ الدين الرسمي في ماليزيا هو الإسلام. إنَّ الصفيحة الأرضية عبارة عن مكعبين متداخلين، أطرافهما شبيهةٌ بثمانيةِ نجوم، هذا هو في الواقع النموذج الأساسي في الهندسةِ الاسلامية.
على غرارِ برج إيفل، تنبثقُ صورة برجي بيتروناس القويةُ والجديدة من هندستهما الخلاقَّة. لقد جمع بيلي البرجين المؤلفين من واحدةٍ وأربعين طبقة بجسرٍ فريدٍ في نوعهِ، ذي سقفين مزدوجين. يُسهلُ الجسر التنقل بين البرجين، كما يُعتبرُ ممر نجاةٍ في حالِ وقوعِ حادثٍ طارئ في أحدِ البرجين.
لمَّا كان البرجان يتمايلان مع الهواء، كان مستحيلٌ أن يثبَّتَ الجسر بهما وإلاَّ تحطَّم تحطيماً كاملًا، فكان الحلُّ أن يدعم الجسر زوجان من القوائم، مما يعطيه مرونةً لينطوي نحو الداخل وينبسط نحو الخارج بمقدار قدم. إنَّ الجسرَ يصعدُ ويعلو بوتيرةٍ خفيفة، فعندما يتحركُ البرجين نحو الداخل، يعلو الجسر، وينكمشان في الوسطِ قليلًا.
كانت المسألة مسألة وقت، حتَّى ينتزع بناء آخر اللقب منهما، فقبل أن يتمَّ افتتاح البرجين رسميًا، كانت شيكاغو ترسمُ خطةً لاستعادة لقبها، من خلالِ بناء ناطحة سحاب تعلو برجي بتروناس بسبعين انشًا
السؤال،
إلى متى ستستمرُّ حرب العلو هذه، هل السماء هي فعلًا الحدود الأخيرة.
من الناحية التقنية، يُمكننا المضي قدمًا، إنَّما التعقيدات ستتفاقم وستتفاقم، هذا لا يتعلَّق بالهندسة البنوية فحسب، إنَّما تشييد أبنيةٍ أعلى ليس منطقيًا، فكلَّما عَلى المبنى، احتاج إلى المصاعد، وكلَّما احتاج إلى المصاعد وجب تخصيص مساحةٍ أكبر له، وكلَّما وجب تخصيص مساحة أكبر له، صار المبنى أضخم، وكلَّما صار المبنى أضخم، باتت الطبقات السفلى تغصُّ بالمصاعد للصعود إلى الطبقات العليا. والحقيقة لا يُمكننا أن نشيِّد أبنيةً أعلى وأعلى إلى الأبد، إنَّما لم نبلغ الحدود الأخيرة بعد. وإلى أن نبلغَ هذه الحدود سيستمرُّ المهندسون يحلمون، هناكَ سببان يدفعان الإنسان إلى تشييد أبنيةٍ عالية، أولًا، إنَّ الأبنية الشاهقة، تتركُ آثار الحضارة حيَّةً في النفوس، فناطحات السحاب بالنسبةِ إلى حضارتنا اليوم، هي بمثابةِ كاتدرائياتٍ أو حتَّى أهرام. ثانيًا إنَّ الإنسان يميلُ إلى استخدام ما تقدِّم التكنولوجيا لهُ من اختراعات، فإنَّنا نعجز عن كبحِ رغبتنا في استخدام تكنولوجيا تتيحُ لنا الصعودَ عاليًا فلطالما دفعتنا طبيعتنا البشرية إلى استخدام الأدوات كافة.
0 comments:
Post a Comment